سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} بمكة إثر قولهم {أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] ونزل قوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله {وما لهم} إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول {ما كان ليعذبهم} بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله {وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون} فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله {معذبهم} يعود على كفار مكة والضمير في قوله {وهم} عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله {وهم يستغفرون}، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله {وما لهم ألا يعذبهم الله} وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله {وهم} عائد على الكفار.
والمراد به سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله {وهم يستغفرون} ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى {يستغفرون} يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة، وقوله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله} توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون أن في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله {وما} أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسيؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون {ما} نافية ويكون القول إخباراً، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله {وهم يصدون} على التأويلين جملة في موضع الحال، و{يصدون} في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو ***
وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمُنا ***
والضمير في قوله {أولياؤه} عائد على الله عز وجل من قوله {يعذبهم الله}، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول وقوله {ولكن أكثرهم لا يعلمون} معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله {أكثرهم} ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله {أكثرهم} أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوماً قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله {أكثرهم} وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله}، ناسخ لقوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ.


قرأ الجمهور {وما كان صلاتُهم} بالرفع {عند البيت لا مكاءً} بالنصب {وتصديةً} كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: {صلاتَهم} بالنصب {إلا مكاءٌ وتصديةٌ} بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟ قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفاً ومنكراً واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنَّ سبيئةً من بيت رأس *** يكون مزاجها عسلٌ وماءُ
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود: 67] وقوله {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} [النمل: 51] {وكيف كان عاقبة المفسدين} [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور، فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلاً *** تمكو فريصته كشدق الأعلم
ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل *** يصف رجلاً فر به حيوان
ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ *** تمكو جوانبها من الإنهار
ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في {مكاء} منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ {إلا مكا} بالقصر، والتصدية عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، والتصدية يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة *** بمصران أعلى ابني شمام البوائن
فيلتئم على هذا الاشتقاق قوم من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد استعمل الفعل مضعفاً للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله {وغلقت الأبواب} [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلاً وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز]
بات ينزي دَلْوَه تنزّيا ***
وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء {تصدية} فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصِد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضاً على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: {إذا قومك منه يصِدون} [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن المكاء والتصدية إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مُكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته.


قال بعض الرواة منهم ابن أبزى وابن جبير والسدي ومجاهد: سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من الذهب أو نحو هذا، وأن الآية نزلت في ذلك، وقال ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ إنه لما قتل من قتل ببدر اجتمع أبناؤهم وقرابتهم وقالوا لمن خلص ماله في العير: إن محمداً قد نال منا ما ترون، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الواقعة، فلعلنا أن ننال منه ثأراً، ففعلوا فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وعلى القولين فإنما أنفق المال في غزوة أحد، فأخبر الله تعالى في هذه الآية خبراً لفظه عام في الكفار، والإشارة به إلى مخصوصين أنهم ينفقون أموالهم يقصدون بذلك الصد عن سبيل الله والدفع في صدر الإسلام، ثم أخبر خبراً يخص المشار إليهم أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، إذ لا تتم لهم إرادة ويذهب المال باطلاً، والحسرة التلهف على الفائت، ويحتمل أن تكون الحسرة في يوم القيامة، والأول أظهر وإن كانت حسرة القيامة راتبة عليهم، ثم أخبر أنه يغلبون بعد ذلك، بأن تكون الدائرة عليهم، وهذا من إخبار القرآن بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر، قال ابن سلام: بين الله عز وجل أنهم يغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة، حكاه الزهراوي، ثم أخبر تعالى عن الكافرين أنهم يجمعون إلى جهنم، والحشر جمع الناس والبهائم إلى غير ذلك مما يجمع ويحضر، ومنه قوله {وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً} [الأنعام: 111] ومنه في التفسير: أن السلوى طائر كانت الجنوب تحشره على بني إسرائيل، والقوم الذين جلبهم أبو سفيان وأنفق المال عليهم هم الأحابيش من كنانة، ولهم يقول كعب بن مالك: [الطويل]
وَجِئْنا إلى موجٍ من البحر وسطه *** أحابيشُ منهم حاسرٌ ومقنعُ
ثلاثة آلاف ونحن قصية *** ثلاثُ مئين إن كثرن وأربعُ
وقال الضحاك وغيره: إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوماً عشراً ويوماً تسعاً من الإبل، وحكى نحو هذا النقاش.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8